14 - مايو - 2024

الماء وعِطر الفدائي -1-

الماء وعِطر الفدائي -1-

من تجربتي 1من 3

محمد قاروط أبو رحمه

عِطر الفدائي على بوابات الوطن

في العام 1975 وفي حرب الدفاع عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل في لبنان، أو التي تسمى أيضا الحرب الأهلية اللبنانية، كنتُ قائدًا لمجموعة فدائية في بلدة اسمها سعد نايل تقع ما بين مدينتي شتورة، وزحلة من سهل البقاع اللبناني.

وكنت في العشرين من عمري آنذاك.

كانت القيادة الفلسطينية أعلنت التعبئة العامة.

طلاب شعبنا من كل جامعات العالم هم الاحتياط الاستراتيجي لقوات العاصفة، إضافة إلى فئات أخرى من أبناء شعبنا الأبطال من سوريا ولبنان والأردن والعراق واليمن والكويت والجزائر وتونس، الذين التحقوا بالتعبئة العامة أو بقوات العاصفة والثورة.

كانت المجاميع تُقسم إلى مجموعتين فور وصولها: الأولى من الذين سبق له تلقي تدريب عسكري، والمجموعة الثانية من الذين لم يتلقوا تدريبًا عَسْكَرِيًّا، فكانوا يخضعون لدورة سريعة، ثم يتم توزيعهم على كتائب قوات العاصفة.

كان نصيب مجموعتي مقاتلًا واحدًا.

نزل من السيارة شابٌّ يلبس بدلة عسكرية، ويحمل سلاحه الشخصي وتوابعه، فارع الطول جميل الشكل، لحيته مهذبه، وشعره طويل إلى أكتافه، طلب منه سائق السيارة أن يأخذ حقيبته، وأشار بأصبعه مطوّلًا نحوي.

عندما أنزل الشاب حقيبته من السيارة، فإذا بها كبيرة بشكل ملفت، توجه نحوي وقبل أن يلقي التحية، سبقته رائحة عطرِهِ الأخاذة والعبقة.

ألقى التحية، رحبت به، وتعارفنا.

فلسطيني ولد في الغرب.

من عائلة علم تمتهن التجارة، جمع جمال المنظر وقوة المحضر، أنهى في نفس العام بكالوريوس فلسفة في إحدى الجامعات الغربية كما ذكر.

أعطيته اسماً مستعاراً (اسمًا حَرَكِيًّا) كما هي العادة، وحدّدت له ما يجوز وما لا يجوز أن يعرف عنه زملائه.

تركته ليصحبه أحد زملائه الجدد ليتعرف على بقية ألمجموعة.

في حواري الذاتي الداخلي عن الفدائي الأنيق والجميل ذو العطر الفواح، الذي كان يلهو في شوارع باريس ولندن وأمستردام، كدت أجزم أنه لن يستمر معنا طويلا!

في أول اختبار للرصاص تعرضنا له وهو معنا، كان شجاعًا.

وعندما توقف الرصاص غاب ساعة تقريبًا، وعاد كأنه ذاهب إلى حفلة خطوبته، وعطره ينتشر في الأجواء.

كانت والدته ترسلُ له عطره وملابسه من أرقى العلامات التجارية العالمية…

كان بخيلاً جدًا في عطره… فلم يصدف أن قام برشّ أي منا ولو ببخّة واحدة!

كنّا نحترم خصوصيته…

وكان يحمل معه مكواة على الفحم.

وبعد انتهاء التعبئة العامة بقي معنا وتطوّر وحصل على دورات عسكرية، وأصبح قائدا لفصيلة تحت قيادتي.

كنا نعرف أنه قادم من مكان، أو أنه كان في هذا المكان من رائحة عطره، فكنا نسميه تحببا “أبو العطر”.

خاض كل الحروب من عام 1975 وحتى خروجنا بالبواخر من طرابلس لبنان إلى الجزائر عام 1983.

في عرض البحر الذي يحمل الناس إلى كل الدنيا إلا فلسطين، وفي  الطريق إلى الجزائر سألني: إلى أين نحن ذاهبون؟

قلت له: أنت إلى مكان مولدك لتكمل دراستك، واللقاء في فلسطين، كل حسب قدرته وإمكانياته.

قبِل رأيي وجاء مودعًا، وأهداني نصف دزينة من عطره

وقال: “حتى تتذكرني كلما وضعت منه”!

صدق.

كنت كلما وقفت لاستخدم العطر اضحك وأتذكره قبل أن اشتم رائحة العطر الجميل.

افترقنا في الجزائر عام 1983

وكان لقاؤنا المفاجئ في فلسطين بتاريخ 13-5-1994.

مقالات ذات صله